فصل: تفسير الآية رقم (44)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏44‏]‏

‏{‏تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ‏(‏44‏)‏‏}‏

‏{‏تُسَبّحُ‏}‏ بالفوقانية وهي قراءة أبي عمرو‏.‏ والأخوين‏.‏ وحفص، وقرأ الباقون بالتحتانية لأن تأنيث الفاعل مجازي مع الفصل وقرىء ‏{‏سبحت‏}‏ ‏{‏تُسَبّحُ لَهُ السماوات السبع والارض وَمَن فِيهِنَّ‏}‏ أي من الملائكة والثقلين ‏{‏وَإِن مّن شَىْء‏}‏ من الأشياء حيواناً كان أو نباتاً أو جماداً ‏{‏إِلاَّ يُسَبّحُ‏}‏ ملتبساً ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ تعالى، والمراد من التسبيح الدلالة بلسان الحال أي تدل بإمكانها وحدوثها دلالة واضحة على وجوب وجوده تعالى ووحدته وقدرته وتنزهه من لوازم الإمكان وتوابع الحدوث كما يدل الأثر على مؤثره ففي الكلام استعارة تبعية كما في نطقت الحال‏.‏

وجوز أن يعتبر فيه استعارة تمثيلية ولا يأبى حمل التسبيح على ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ بناءً على أن كثيراً من العقلاء فهم تلك الدلالة لما أن الخطاب للمشركين والكفرة لا للناس على العموم لأنه تقدم ذكر قبائحهم من نسبتهم إليه تعالى شأنه ما لا يليق بجلاله فإن الله سبحانه وصف ذاته بالنزاهة عنه وبالغ فيه ما بالغ ثم عقبه بما ذكر دلالة على أن كل الأكوان شاهدة بتلك النزاهة مبالغة على مبالغة فلو كان الخطاب مع غير هؤلاء المنكرين وأضرابهم لم يتلاءم الكلام ويخرج عن النظام‏.‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ تذييل من تتمة الإنكار على الوجه الأبلغ أي إنه سبحانه حليم ولذلك لم يعاجلكم بالعقوبة لإخلالكم بالنظر الصحيح الموصل إلى التوحيد ولو تبتم ونظرتم لغفر لكم ما صدر منكم من التقصير فإنه غفور لمن يتوب، وظن ابن المنير أن هذا التذييل يأبى كون الخطاب للمشركين قال‏:‏ لأنه سبحانه لا يغفر لهم ولا يتجاوز عن جهلهم وإشراكهم، والظاهر أن المخاطب المؤمنون وعدم فقههم للتسبيح الصادر من الجمادات كناية والله تعالى أعلم عن عدم العمل بمقتضى ذلك فإن الإنسان لو تيقظ حق التيقظ إلى أن النملة والبعوضة وكل ذرة من ذرات الكون يقدس الله تعالى وينزهه ويشهد بجلاله وكبريائه وقهره وعمر خاطره بهذا الفهم لشغله ذلك عن الطعام فضلاً عن فضول الأفعال والكلام والعاكف على الغيبة التي هي فاكهتنا في زماننا لو استشعر حال إفاضته فيها أن كل ذرة من ذرات لسانه الذي يلقلقه في سخط الله تعالى عليه مشغولة مملوءة بتقديس الله تعالى وتسبيحه وتخويف عقابه وإنذار جبروته وتيقظ لذلك حق التيقظ لكاد يبكم بقية عمره، فالظاهر أن الآية إنما وردت خطاباً على الغالب من أحوال الغافلين وإن كانوا مؤمنين اه، وليس بسديد لخروج الكلام على ذلك من النظام، ووجه التذييل ما سمعت فلا إباء كما لا يخفى على ذوي الأفهام‏.‏

وجوز أن يراد بالتسبيح الدلالة على تنزيه البارىء سبحانه عن لوازم الإمكان وتوابع الحدوث مطلقاً سواء كانت حالية أو مقالية على أنه من عموم المجاز أو بالجمع بين المعنى الحقيقي والمجازي على رأي من يجوزه فتسبيح بعض قالي وتسبيح بعض آخر حالي‏.‏

وتعقبه بأنه لا يلائمه ‏{‏لاَّ تَفْقَهُونَ‏}‏ لأن من ذلك التسبيح ما يفقهه المشركون وغيرهم وهو التسبيح القالي‏.‏ وأجيب بأن المشركين لعدم تدبرهم له وانتفاعهم به كان فهمهم بمنزلة العدم أو أنهم لعدم فهمهم بعض المراد من التسبيح جعلوا ممن لا يفهم الجميع تغليباً‏.‏ وذهب بعض الظاهرية وارتضاه الراغب وقال في تفسير الخازن أنه الأصح على أن التسبيح على معناه الحقيقي فالكل يسبح بلسان القال حتى الجمادات ولم يرتض ذلك الإمام لأن هذا التسبيح لا يحصل إلا مع العلم وهو مما لا يتصور في الجماد لفقد شرطه العقلي وهو الحياة ولو لم يكن ذلك شرطاً عقلياً لانسد باب العلم بكونه سبحانه وتعالى حياً؛ وأيضاً التذييل السابق يأبى ذلك لدلالته على أن عدم فقه التسبيح المذكور جرم ولا شك أن عدم فقه تسبيح الجمادات بألفاظها ليس بجرم وإنما الجرم عدم فقه دلالتها للغفلة وقصور النظر ومن تتبع الأحاديث والآثار رأى فيها ما يشهد بما ذهب إليه هذا البعض شهادة لا تكاد تقبل التأويل فقد صح سماع تسبيح الحصا في كفه صلى الله عليه وسلم‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن أنس قال‏:‏ أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بطعام ثريد فقال‏:‏ إن هذا الطعام يسبح فقالوا‏:‏ يا رسول الله وتفقه تسبيحه‏؟‏ قال‏:‏ نعم ثم قال لرجل أدن هذه القصعة من هذا الرجل فأدناها فقال‏:‏ نعم يا رسول الله هذا الطعام يسبح فقال‏:‏ أدنها من آخر فأدناها منه فقال‏:‏ يا رسول الله هذا الطعام يسبح ثم قال‏:‏ ردها فقال رجل‏:‏ يا رسول الله لو أمرت على القوم جميعاً فقال‏:‏ لا إنها لو سكتت عند رجل لقالوا‏:‏ من ذنب ردها فردها‏.‏

وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال‏:‏ كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس معنا ماء فقال لنا‏:‏ اطلبوا من معه فضل ماء فأتى بماء فوضعه في إناء ثم وضع يده فيه فجعل الماء يخرج من بين أصابعه ثم قال‏:‏ حي على الطهور المبارك والبركة من الله تعالى فشربنا منه قال عبد الله‏:‏ كنا نسمع صوت الماء وتسبيحه وهو يشرب‏.‏

وأخرج أحمد‏.‏ وابن مردويه عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إن نوحاً عليه السلام لما حضرته الوفاة قال لابنيه‏:‏ آمركما بسبحان الله وبحمده فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء، وأخرج أحمد عن معاذ بن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه مر على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل فقال لهم‏:‏ اركبوها سالمة ودعوها سالمة ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق فرب مركوبة خير من راكبها وأكثر ذكر الله تعالى منه، وأخرج النسائي‏.‏

وأبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه عن ابن عمر قال‏:‏ نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع وقال نقيقها تسبيح‏.‏

وأخرج ابن أبي الدنيا‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في الشعب عن أنس بن مالك قال‏:‏ ظن داود عليه السلام في نفسه أن أحداً لم يمدح خالقه بما مدحه وإن ملكاً نزل وهو قاعد في المحراب والبركة إلى جانبه فقال يا داود افهم إلى ما تصوت به الضفدع فانصت داود فإذا الضفدع تمدحه بمدحة لم يمدحه بها فقال له الملك‏:‏ كيف ترى يا داود أفهمت ما قالت‏؟‏ قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ماذا قالت‏؟‏ قال‏:‏ قالت سبحانك وبحمدك منتهى علمك يا رب قال داود‏:‏ لا والذي جعلني نبيه أني لم أمدحه بهذا‏.‏

وأخرج أحمد في الزهد‏.‏ وأبو الشيخ عن شهر بن حوشب من حديث طويل أن داود عليه السلام أتى البحر في ساعة فصلى فنادته ضفدعة يا داود إنك حدثت نفسك أنك قد سبحت في ساعة ليس يذكر الله تعالى فيها غيرك وأني في سبعين ألف ضفدع كلها قائمة على رجل نسبح الله تعالى ونقدسه‏.‏

وأخرج الخطيب عن أبي ضمرة قال‏:‏ كنا عند علي بن الحسين رضي الله تعالى عنهما فمر بنا عصافير يصحن فقال‏:‏ أتدرون ما تقول هذا العصافير‏؟‏ قلنا‏:‏ لا قال‏:‏ أما أني ما أقول أنا نعلم الغيب ولكن سمعت أبي يقول سمعت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ إن الطير إذا أصبحت سبحت ربها وسألته قوت يومها وإن هذه تسبح ربها وتسأله قوت يومها‏.‏

وأخرج ابن راهويه في مسنده من طريق الزهري قال‏:‏ أتى أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه بغراب وافر الجناحين فقال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ ما صيد صيد ولا عضدت عضاه ولا قطعت وشيجة إلا بقلة التسبيح ‏"‏‏.‏ وأخرج أبو نعيم في الحلية‏.‏ وابن مردويه عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله عليه الصلاة والسلام ما صيد من صيد ولا وشج من وشج إلا بتضييعه التسبيح‏.‏

وأخرج أبو الشيخ عن أبي الدرداء‏.‏ وابن مردويه عن ابن مسعود مثل ذلك مرفوعاً أيضاً‏.‏ وأخرج أبو الشيخ عن الحسن لولا ما غم عليكم من تسبيح ما معكم من البيوت ما تقاررتم‏.‏ وأخرج ابن أبي حاتم عن لوط بن أبي لوط قال‏:‏ «بلغني أن تسبيح سماء الدنيا سبحان ربي الأعلى والثانية سبحانه وتعالى والثالثة سبحانه وبحمده والرابعة سبحانه لا حول ولا قوة إلا به والخامسة سبحان محيي الموتى وهو على كل شيء قدير والسادسة سبحان الملك القدوس والسابعة سبحان الذي ملأ السموات السبع والأرضين السبع عزة ووقاراً» إلى ما لا يكاد يحصى من الأخبار والآثار وهي بمجموعها متعاضدة في الدلالة على أن التسبيح قالي كما لا يخفى وهو مذهب الصوفية، وذكروا أن السالك عند وصوله إلى بعض المقامات يسمع تسبيح الأشياء بلغات شتى‏.‏

وقد روي عن بعض السلف سماعه لتسبيح بعض الجمادات، واختلف القائلون بهذا التسبيح فقال بعضهم‏:‏ بثبوته للأشياء مطلقاً، وقيل إن التراب يسبح ما لم يبتل فإذا ابتل ترك التسبيح وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها فإذا رفعت تركت وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة فإذا سقطت تركت وإن الثوب يسبح ما لم يتسخ فإذا اتسخ ترك وإن الوحش والطير تسبح إذا صاحت وإذا سكتت تركت، وعلى هذا ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن شوذب قال‏:‏ جلس الحسن مع أصحابه على مائدة فقال بعضهم‏:‏ هذه المائدة تسبح الآن فقال الحسن‏:‏ كلا إنما ذاك كل شيء على أصله‏.‏

وأخرج عن السدي أنه قال‏:‏ ما من شيء على أصله الأول لم يمت إلا وهو يسبح بحمده تعالى، ولعله أراد بالموت خروجه عن أصله الأول‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وغيرهم عن قتادة أنه قال في الآية‏:‏ كل شيء فيه الروح يسبح من شجرة وحيوان، وكون الشجرة ذات روح مبني على قول الناس فيها إذا يبست ماتت، واستثنى بعضهم بعض الحيوانات من عموم كل شيء لما أخرجه أبو الشيخ عن ابن عباس أنه قال‏:‏ كل شيء يسبح إلا الحمار والكلب‏.‏

ولا أرى لاستثناء ما ذكر وجهاً وفي القلب من صحة الرواية عن الخبر شيء، وكذا للتقييد بعد أن لم تكن الجمادية مانعة عن التسبيح والأخبار الظاهرة في عدم التقييد أكثر، ولا أظن أن لما يخالفها امتيازاً عليها في الصحة‏.‏

ويشكل على هذا القول ما تقدم عن الإمام من إباء التذييل عنه وعدم وجود العلم الذي يستدعيه التسبيح القالي في الجمادات، وتفضي بعضهم عن هذا بالتزام أن لكل شيء حياة وعلماً لائقين به ولا يطلع على حقيقة ذلك إلا الله تعالى اللطيف الخبير فكل ما في العالم عند هذا الملتزم حي عالم لكنه متفاوت المراتب في العلم والحياة‏.‏

ونقل الشعراني عن الخواص أنه قال‏:‏ كل جماد يفهم الخطاب ويتألم كما يتألم الحيوان، وقال الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ أن المسمى بالجماد والنبات له عندنا أرواح بطنت عن إدراك غير الكشف إياها في العادة فالكل عندنا حي ناطق غير أن هذا المزاج الخاص يسمى إنساناً لا غير بالصورة ووقع التفاصيل بين الخلائق في المزاج والكل يسبح الله تعالى كما نطقت الآية به ولا يسبح إلا حي عاقل عالم عارف بمسبحه، وقد ورد أن المؤذن يشهد له مدى صوته من رطب ويابس، والشرائع والنبوات مشحونة بما هو من هذا القبيل ونحن زدنا مع الإيمان بالأخبار الكشف إلى آخر ما قال‏.‏

واستدل بعضهم في هذا المقام بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم إنه قال في دعائه للحمى‏:‏ يا أم ملدم إن كنت آمنت بالله تعالى فلا تأكلي اللحم ولا تشربي الدم ولا تفوري من الفم وانتقلي إلى من يزعم أن مع الله تعالى آلهة أخرى فإني أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، وجاء عن السجاد رضي الله تعالى عنه في الصحيفة في مخاطبة القمر ما هو ظاهر في أن له شعوراً، واستفاض عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه كتب للنيل كتاباً يخاطبه فيه بما يخاطبه وضرب الأرض بالدرة حين تزلزلت وقال لها‏:‏ إني أعدل عليك‏.‏ وكم وكم في الأخبار نحو ذلك قيل ولا داعي لتأويلها إذ لا أحد يقول‏:‏ إن شعور الجمادات كشعور الحيوانات الظاهرة بحيث يدركه كل أحد حتى يكون العمل بظاهر اللفظ خلاف حس العقلاء فيجب ارتكاب التأويل والتجوز، ومن علم عظم قدرة الله عز وجل وأنه سبحانه لا يعجزه شيء وأن المخلوقين على اختلاف مراتبهم لا سيما المنغمسين في أوحال العلائق والعوائق الدنيوية والمسجونين في سجين الطبيعة الدنية لم يقفوا على عشر العشر مما أودع في عالم الإمكان ونقش بيد الحكمة على برود الأعيان سلم ما جاء به الصادق عليه الصلاة والسلام وإن خالف ما عنده نسب القصور إلى نفسه فرب فكر يظنه المرء حقاً وهو من الأوهام كما لا يخفى على من أنصف ولم يتعسف‏.‏

وعلى هذا الذي ذكروه لا تحتاج إعادة ضمير ذوي العلم في ‏{‏تَسْبِيحَهُمْ‏}‏ على ما تقدم إلى توجيه وتفصى آخر عن الأول بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا‏}‏ متعلق بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ‏}‏ ولا يخفى ما في هذا التفصي، ولعل الأولى فيه أن يلتزم حمل التسبيح على ما هو الأعم من الحالي والقالي ويثبت كلا النوعين لكل شيء، والتذييل باعتبار القصور في فقه الحالي لا باعتبار القصور في فقه الآخر، ويشكل أيضاً أن من أفراد من نسب إليه التسبيح الجحد فضلاً عن الساكت فالحمل على المجاز واجب‏.‏ وأجيب بأن استثناء أولئك معلوم بقرينة السباق واللحاق، وزعم من زعم أن الجاحد مقدس أيضاً وأنشدوا للحلاج‏:‏

جحودي لك تقديس *** وعقلي فيك منهوس فما آدم الاك

وما في الكون إبليس *** وأنت تعلم أن مثل هذا الحلج والندف صار سبباً لما لاقى من الحتف فماذا عسى أقول سوى حسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏ وقرىء ‏{‏لاَّ يَفْقَهُونَ‏}‏ على صيغة المبني للمفعول من باب التفعيل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏45‏]‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان‏}‏ الناطق بالتسبيح والتنزيه ودعوتهم إلى العمل بما فيه ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ بقدرتنا ومشيئتنا المبنية على الحكم الخفية‏.‏

‏{‏بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة‏}‏ وهم المشركون المتقدم ذكرهم، وأوثر الموصول على الضمير ذماً لهم بما في حيز الصلة ويتم به مع ما سبق الإشارة إلى كفرهم بالمبدأ والمعاد‏.‏

وفي إرشاد العقل السليم إنما خص بالذكر كفرهم بالآخرة من بين سائر ما كفروا به من التوحيد ونحوه دلالة على أنها معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن وتمهيداً لما سينقل عنهم من إنكار البعث واستعجاله ونحو ذلك اه، وفي كون الآخرة معظم ما أمروا بالإيمان به في القرآن تردد وربما يدعى أن ذلك هو التوحيد فالأولى الاقتصار على أنه للتمهيد ‏{‏حِجَاباً‏}‏ يحجبهم من أن يدركوك على ما أنت عليه من النبوة وجلالة القدر ولذلك اجترؤا على التفوه بالعظيمة وهي قولهم‏:‏ ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ وأصل الحجاب كالحجب المنع من الوصول فهو مصدر وقد أريد به الوصف أي حاجباً ‏{‏مَّسْتُورًا‏}‏ أي ذا ستر فهو للنسب كرجل مرطوب ومكان مهول وجارية مغنوجة ومنه ‏{‏وَعْدُهُ مَأْتِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 61‏]‏ وكذا سيل مفعم بفتح العين والأكثر مجىء فاعل لذلك كلابن وتامر، وجوز أن يكون الإسناد مجازياً كما اشتهر في المثال الأخير، وعن الأخفش أن مفعول يرد بمعنى فاعل كميمون ومشؤم بمعنى يامن وشائم كما أن فاعل يرد بمعنى مفعول كماء دافق فمستور بمعنى ساتر أو مستوراً عن الحس فهو على ظاهره ويكون بياناً لأنه حجاب معنوي لا حسي أو مستوراً في نفسه بحجاب آخر فيكون إيذاناً بتعدد الحجب أو مستوراً كونه حجاباً حيث لا يدرون أنهم لا يدرون، وقيل‏:‏ إنه على الحذف والإيصال أي مستوراً به الرسول صلى الله عليه وسلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏46‏]‏

‏{‏وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا ‏(‏46‏)‏‏}‏

‏{‏وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً‏}‏ أغطية جمع كنان، والمراد بمعونة المقام التكثير أي أكنة كثيرة‏.‏

‏{‏أَن يَفْقَهُوهُ‏}‏ مفعول له بتقدير مضاف أي كراهة أن يقفوا على كنهه ويعرفوا أنه من عند الله تعالى أو مفعول به لفعل مقدر مفهوم من الجملة أو من ‏{‏أَكِنَّةً‏}‏ لا أن ‏{‏جَعَلْنَا‏}‏ أو شيئاً مما ذكر قد ضمنه كما يتوهم أي منعناهم فقهه والوقوف على كنهه ‏{‏وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْرًا‏}‏ صمماً وثقلاً عظيماً مانعاً من سماعه اللائق به فإنهم كانوا يسمعونه من غير تدبر، وهذه كما قال بعض المحققين تمثيلات معربة عن كمال جهلهم بشؤون النبي صلى الله عليه وسلم وفرط نبو قلوبهم عن فهم القرآن الكريم ومج أسماعهم له جىء بها بياناً لعدم فقههم فصيح المقال إثر بيان عدم فقههم دلالة الحال وفيه إيذان بأن ما تضمنه القرآن من التسبيح في غاية الظهور بحيث لا يتصور عدم فهمه إلا لمانع قوي يعتري المشاعر فيبطلها وتنبيه على أن حالهم هذه أقبح من حالهم السابقة، وحمل الآية على ما ذكر من لم يجعل التسبيح فيما سبق لفظياً وعلى جعله لفظياً لا يحسن حملها على ذلك كما لا يخفى، هذا وقال بعضهم‏:‏ المراد بالحجاب ما يحجبهم عن فهم ما يقرؤه عليه الصلاة والسلام فقد أخرج ابن جرير‏.‏ وابن أبي حاتم عن قتادة أنه قال‏:‏ الحجاب المستور أكنة على قلوبهم أن يفقهوه وأن ينتفعوا به وإلى ذلك ذهب الزجاج، وتعقب بأنه لا يلائم ‏{‏بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏ الخ إلا بتقدير مضافين أي جعلنا بين فهم قراءتك، وأيضاً يلزم عليه التكرار من غير فائدة جديدة، وأجيب بأن الظاهر أنه لا يقدر فيه وإنما يلزم لو كان حقيقة وهذا تمثيل لهم في عدم إسماع الحق بمن كان وراء جدار وحجاب كما أن الأكنة كذلك، وأما حديث التكرار من غير فائدة فمدفوع بأن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَجَعَلْنَا‏}‏ الخ تصريح بما اقتضاه نفي فصيح المقال بعد نفي فهم دلالة الحال من كونهم مطبوعين على الضلال ولا يخفى على المنصف أولوية ما تقدم‏.‏

وعن الجبائي أن المراد بالحجاب ما يحجبهم عن إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وذلكم أنهم كانوا يقصدونه إذا قرأ ليؤذوه فآمنه الله تعالى وذكر له عليه الصلاة والسلام أنه جل شأنه جعل بينه وبينهم حجاباً عند القراءة فلا يمكنهم الوصول إليه، وهو عندي مما لا بأس به وأن ذكره في معرض التفصي عن استدلال أصحابنا بالآية على أن الله تعالى يمنع عن الإيمان من شاء كما يهدي إليه من شاء نعم هو دون الأول عند من يتأمل‏.‏

وقيل‏:‏ المراد حجاب منعهم رؤية شخص النبي صلى الله عليه وسلم وذاته الكريمة‏.‏

فقد أخرج أبو يعلى‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والحاكم‏.‏ وصححه‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والبيهقي معاً في الدلائل عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنهما قالت‏:‏ لما نزلت ‏{‏تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏ أقبلت العوراء أم جميل ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول‏:‏

مذمما أبينا *** ودينه قلينا وأمره عصينا

ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس‏.‏ وأبو بكر إلى جنبه فقال أبو بكر‏:‏ لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك فقال‏:‏ إنها لن تراني، وقرأ قرآناً اعتصم به كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة حِجَابًا مَّسْتُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏ فجاءت حتى قامت على أبي بكر فلم تر النبي عليه الصلاة والسلام فقالت‏:‏ يا أبا بكر بلغني أن صاحبك هجاني فقال أبو بكر‏:‏ لا ورب هذا البيت ما هجاك فانصرفت وهي تقول‏:‏ قد علمت قريش أني بنت سيدها‏.‏

وجاء في رواية أنها حين ولت ذاهبة قال أبو بكر‏:‏ يا رسول الله إنها لم ترك فقال النبي صلى الله عليه وسلم حال بيني وبينها جبريل عليه السلام، وذكر الإمام أنه كان صلى الله عليه وسلم إذا أراد تلاوة القرآن تلا قبلها ثلاث آيات قوله تعالى‏:‏ في سورة الكهف ‏{‏إنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِى ءاذَانِهِمْ وَقْراً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 57‏]‏‏.‏

وقوله سبحانه في النحل‏:‏ ‏{‏أُولَئِكَ الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 108‏]‏ وقوله جل وعلا في سورة حم الجاثية ‏{‏أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ‏}‏ ‏[‏الجاثية‏:‏ 23‏]‏ الآية فكان الله تعالى يحجبه ببركات هذه الآيات عن عيون المشركين وهو المراد من قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَإِذَا قَرَأْتَ القرءان جَعَلْنَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 45‏]‏ الخ واحتج أصحابنا بذلك على أنه يجوز أن تكون الحاسة سليمة ويكون المرئي حاضراً مع أنه لا يرى بسبب أن الله تعالى يخلق في العين مانعاً يمنع من الرؤية قالوا‏:‏ إن النبي عليه الصلاة والسلام كان حاضراً وحواس الكفار سليمة وكانوا لا يرونه وقد أخبر سبحانه أن ذلك لأجل أنه جعل بينه عليه الصلاة والسلام وبينهم حجاباً مستوراً ولا معنى للحجاب المستور إلا المعنى الذي يخلقه في عيونهم ويكون مانعاً لهم من الرؤية انتهى، وقال بعض المحققين‏:‏ إن حمل الحجاب على ما روي من حديث أسماء مما لا يقبله الذوق السليم ولا يساعده النظم الكريم، وكأنه أراد أن حمله في الآية على الحجاب المانع من الرؤية كذلك فهو وارد على ما نقل عن الإمام أيضاً ويعلم منه حال احتجاج الأصحاب مع ما يرد على قولهم فيه ولا معنى للحجاب الخ من أنه مخالف لما في الرواية السابقة التي ذكر فيها حيلولة جبريل عليه السلام والخبر الذي أخرجه الدارقطني وغيره عن ابن عباس أن النبي عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ كان بيني وبينها ملك يسترني بجناحيه حتى ذهبت فإن كلا الخبرين ظاهر في أن المانع لم يكن في عيونهم بل هو إما جبريل عليه السلام أو ملك آخر حال بينه صلى الله عليه وسلم وبينهم فلم يروه لكن يبقى الكلام في أن منع اللطيف الرؤية خلاف العادة أيضاً وهو بحث آخر فليتدبر، ثم إن ما روي عن أسماء ليس نصاً في أن الحجاب في الآية هو الحجاب المانع عن الرؤية كما لا يخفى على من أمعن النظر وهذا القول إنما يحتاج إليه أن اعتبر تصحيح الحاكم أو نص على صحته من اعتبر تصحيحه من المحدثين أما إذا لم يكن ذلك فأمره سهل، وجعل الزمخشري ما تقدم حكاية لما قالوا

‏{‏قُلُوبَنَا فى أكنَّةٍ مما تدعونا إليه وفى آذاننا وقرٌ ومِنْ بيننا وبينك حجاب‏}‏ ‏[‏فصلت‏:‏ 5‏]‏ في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب على معنى جعلنا على زعمهم ولم يرتضه شيخ الإسلام لأن قصدهم بذلك إنما هو الإخبار بما اعتقدوه في حق القرآن والنبي صلى الله عليه وسلم جهلاً وكفراً من اتصافهما بأوصاف مانعة من التصديق والإيمان ككون القرآن سحراً وشعراً وأساطير وقس عليه حال النبي عليه الصلاة والسلام لا الإخبار بأن هناك أمراً وراء ما أدركوه قد حال بينهم وبين إدراكه حائل من قبلهم، ولا ريب في أن ذلك المعنى مما لا يكاد يلائم المقام انتهى، وقد يقال‏:‏ حيث كان الكلام مسوقاً لتعداد قباحهم والإنكار عليهم فالملاءمة مما لا ريب فيها، نعم اختيار الزمخشري هذا الوجه مما لا يخلو عن دسيسة اعتزالية ولا أظنها تخفى عليك ‏{‏وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِى القرءان وَحْدَهُ‏}‏ أي غير مقرون بذكره ذكر شيء من آلهتهم التي يزعمونها كما كانوا يقولون بالله تعالى واللات مثلاً ويصدق هذا بذكره سبحانه مع نفي الآلهة، و‏{‏وَحْدَهُ‏}‏ عند الزمخشري مصدر الثلاثي يقال وحده يحده وحداً وحدة كوعده يعده وعداً وعدة وهو ساد مسد الحال بمعنى واحداً، وقيل‏:‏ هو مصدر أوحد على حذف الزوائد وأصله إيحاد، ومذهب سيبويه أنه ليس بمصدر بل هو اسم موضوع موضع المصدر وهو إيحاد الموضوع موضع الحال وهو موحد‏.‏

وومذهب يونس أنه منصوب على الظرفية، وتحقيق الأقوال فيه في الرفدة كما قدمنا، وذكر أنه على الحالية إذا وقع بعد فاعل ومفعول كما هنا جاز كونه حالاً من كل منهما أي وإذا ذكرت ربك موحداً له أو موحداً بالذكر ‏{‏وَلَّوْاْ على أدبارهم‏}‏ هربوا أو نفروا ‏{‏نُفُورًا‏}‏ فهو مفعول مطلق منصوب بولوا لتقارب معناهما‏.‏

وجوز أن يكون مفعولاً لأجله أي ولوا لأجل النفور والانزعاج وأن يكون حالاً على أنه جمع نافر أي ولوا نافرين من ذلك والضمير للمشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن عباس ما ظاهره أنه للشياطين ولا يكاد يصح عن الحبر إلا بتأويل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏47‏]‏

‏{‏نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا ‏(‏47‏)‏‏}‏

‏{‏نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ‏}‏ أي ملتبسين به من اللغو والاستخفاف والهزء بك وبالقرآن‏.‏ يروى أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار وعن يساره رجلان منهم فيصفقون ويصفرون ويخلطون عليه بالاشعار، ويجوز أن تكون الباء للسببية أو بمعنى اللام أي نحن أعلم بما يستمعون بسببه أو لأجله من الخزء وهي متعلقة بيستمعون، وجعلها على ظاهرها على معنى أيستمعون بقلوبهم أم بظاهر إسماعهم غير ظاهر، والباء الأولى متعلقة باعلم، وأفعل التفضيل في العلم والجهل يتعدى بالباء وفي سوى ذلك يتعدى باللام فيقال هو أكسى للفقراء مثلاً، والمراد من كونه تعالى أعلم بذلك الوعيد لهم‏.‏

‏{‏إِذْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ‏}‏ ظرف لأعلم لا مفعول به، وفائدته كما قال شيخ الإسلام تأكيد الوعيد بالاخبار بأنه كما يقع الاستماع المزبور منهم يتعلق به العلم لا أن العلم المستفاد هناك من أحد، وليس المراد تقييد علمه تعالى بذلك الوقت وكذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذْ هُمْ نجوى‏}‏ لكن من حيث تعلقه بما به التناجي المدلول عليه بسياق النظم‏.‏

والمعنى نحن أعلم بما يستمعون به مما لا خير فيه مما سمعت وبما يتناجون به فيما بينهم، وجوز أن يكون الأول ظرفاً ليستمعون والثاني ظرفاً فليتناجون، والمعنى نحن أعلم بما به الاستماع وقت استماعهم من غير تأخير وبما به التناجي وقت تناجيهم والأول أظهر، و‏{‏نجوى‏}‏ مصدر مرفوع على الخبرية وفي ذلك ما في زيد عدل، ويجوز أن يعتبر جمع نجى كقتل وقتيل أي إذ هم متناجون ‏{‏إِذْ يَقُولُ الظالمون‏}‏ بدل من إذ الثانية وبيان لما يتناجون به فهو غير ما يستمعون به لا معمول لا ذكر محذوفاً كما قيل‏.‏ و‏{‏الظالمون‏}‏ من المظهر الذي أقيم مقام المضمر للدلالة على أن تناجيهم باب من الظلم أي يقول كل منهم للآخرين عند تناجيهم ‏{‏إِن تَتَّبِعُونَ‏}‏ أي ما تتبعون إن وجد منكم الاتباع فرضاً، وجوز أن يكون المعنى ما تتبعون باللغو والهزء ‏{‏إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ أي سحر فجن فهو كقولهم‏:‏ إن هو إلا رجل مجنون، وقيل‏:‏ جعل له سحر يتوصل بلطفه ودقته إلى ما يأتي به ويدعيه فهو في معنى قولهم ساحر، وجعل بعضهم ‏{‏مَّسْحُورًا‏}‏ بمعنى ساحراً كمستور بمعنى ساتر، وعن أبي عبيدة أن مسحوراً بمعنى جعل له سحر أو ذا سحر أي رئة، ومن هذا قول امرء القيس‏:‏

أرانا موضعين لأمر غيب *** ونسحر بالطعام وبالشراب

وأراد نغذي، وقول لبيد أو أمية بن أبي الصلت‏:‏

فإن تسألينا فيم نحن فإننا *** عصافير من هذا الأنام المسحر

وكنوا بذلك عن كونه بشراً يتنفس ويأكل ويشرب لا يمتاز عنهم بشيء يقتضي اتباعه على زعمهم الفاسد، ولا يخفى ما فيه من البعد حتى قال ابن قتيبة‏:‏ لا أدري ما الذي حمل أبا عبيدة على هذا التفسير المستكره مع أن السلف فسروه بالوجوه الواضحة‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ إنه لا يناسب قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏48‏]‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الامثال‏}‏ أي مثلوك فقالوا تارة شاعرة وتارة ساحرة وتارة مجنون مع علمهم بخلاف ‏{‏فُضّلُواْ‏}‏ في جميع ذلك عن منهاج المحاجة ‏{‏فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً‏}‏ طريقاً ما إلى طعن يمكن أن يقبله أحد فيتهافتون ويخبطون ويأتون بما لا يرتاب في بطلانه من سمعه أو إلى سبيل الحق والرشاد، وفيه من الوعيد وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَالُواْ أَءذَا كُنَّا عظاما ورفاتا‏}‏ عطف على ‏{‏ضَرَبُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ ولما عجب من ضربهم الأمثال عطف عليه أمراً آخر يعجب منه أيضاً‏.‏ وفي «الكشف» الأظهر أن يكون هذا إلى تمام المقالات الثلاث تفسيراً لـ ‏{‏ضربوا لك الأمثال‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ ألا ترى إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واضرب لَهُمْ مَّثَلاً‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 32‏]‏ وتفسيره بمثلوك غير ظاهر بل الظاهر مثلوا لك، ولا خفاء إن تجاوب الكلام على ما ذكرنا أتم، وذلك أنه لما ذكر استهزاءهم به صلى الله عليه وسلم وبالقرآن عجبه من استهزائهم بمضمونه من البعث دلالة على أنه أدخل في التعجب لأن العقل أيضاً يدل عليه ولكن على سبيل الإجمال، وأما على تفسير ‏{‏ضَرَبُواْ لَكَ الامثال‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ بمثلوك فوجهه أن يكون معطوفاً على قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فُضّلُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ لأنه باب من أبواب الضلال أو على مقدر دل عليه ‏{‏كيف ضربوا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ لأن معناه مثلوك وقالوا شاعر ساحر مجنون وقالوا‏:‏ ‏{‏أَن كُنَّا‏}‏ الخ اه‏.‏

ولا يخفى أنه على التفسير الذي اختاره يكون ‏{‏قَالُواْ‏}‏ معطوفاً على ‏{‏ضَرَبُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ أيضاً عطفاً تفسيرياً لكن الظاهر فيه حينئذ الفاء وأنه لا يحتاج على ما ذكرنا إلى تكلف العطف على مقدر والارتباط عليه لا يقصر عن الارتباط الذي ذكره، وعطفه على ‏{‏فُضّلُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ مما لا يحسن لعدم ظهور دخوله معه في حيز الفاء، والاعتراض على التفسير بمثلوك بأنهم ما مثلوه عليه الصلاة والسلام بالشاعر والساحر مثلاً بل قالوا تارة كذا وأخرى كذا، وأيضاً كان الظاهر أن يقال فيك بدل ‏{‏لك‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 48‏]‏ ليس بشيء لأن ما ذكروه على طريق التشبيه لتقريعه صلى الله عليه وسلم وعجزهم عن معارضته، و‏{‏لَكَ‏}‏ أظهر من فيك لأنه عليه الصلاة والسلام الممثل له، هذا وأقول‏:‏ انظر هل ثم مانع من عطف ‏{‏قَالُواْ‏}‏ على ‏{‏يَقُولُ الظالمون‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ وجعل هذا القول مما يتناجون به أيضاً وإعلانهم به أحياناً لا يمنع من هذا الجعل وكذا اختلاف المتعاطفين ماضوية ومضارعية لا يمنع من العطف، نعم يحتاج إلى نكتة ولا أظنها تخفى فتدبر‏.‏

والرفات ما تكسر وبلى من كل شيء، وكثر بناء فعال في كل ما تحطم وتفرق كدقاق وفتات‏.‏

وأخرج ابن جرير وغيره عن مجاهد أنه التراب وهو قول الفراء، وأخرج ابن المنذر وغيره عن ابن عباس أنه الغبار، وقال المبرد‏:‏ هو كل شيء مدقوق مبالغ في دقه وهي أقوال متقاربة، والهمزة للاستفهام الإنكاري مفيدة لكمال الاستبعاد والاستنكار للبعث بعد ما آل الحال إلى هذا المآل كأنهم قالوا‏:‏ إن ذلك لا يكون أصلاً‏.‏

ومنشؤه أن بين غضاضة الحي وطراوته المقتضية للاتصال المقتضى للحياة وبين يبوسة الرميم المقتضية للتفرق المقتضي لعدم الحياة تنافياً، و‏{‏إِذَا‏}‏ هنا كما في «الدر المصون» متمحضة للظرفية والعامل فيها ما دل عليه‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ‏}‏ لا نفسه لأن إن لها الصدر فلا يعمل ما بعدها فيما قبلها، وكذا الاستفهام وإن كان تأكيداً مع كون الاستفهام بالفعل أولى وهو نبعث أو نعاد مصب الإنكار، وتقييده بالوقت المذكور لتقوية إنكار البعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له وإلا فالظاهر من حالهم أنهم منكرون للأحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله‏.‏

وجوز أن تكون شرطية وجوابها مقدر أي نبعث أو نحوه وهو العامل فيها‏.‏ ويل الشرط والمعنى انبعث وقد كنا رفاتاً في وقت وهو مذهب لبعض النحويين غير مشهور ولا معول عليه، وتحلية الجملة بأن واللام لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد كما عسى يتوهم من ظاهر النظم، وليس مدار إنكارهم كونهم ثابتين في المبعوثية بالفعل في حال كونهم عظاماً ورفاتاً كما يرءى من ظاهر الجملة الاسمية بل كونهم بعرضية ذلك واستعدادهم له، ومرجعه إلى إنكار البعث بعد تلك الحالة، وفيه من الدلالة على غلوهم في الكفر وتماديهم في الضلال ما لا مزيد عليه قاله بعض المحققين‏.‏

‏{‏خَلْقاً جَدِيداً‏}‏ نصب بمبعوثين على أنه مفعول مطلق له من غير لفظ فعله أو حال على أن الخلق بمعنى المخوق ووحد لاستواء الواحد في المصدر وإن أريد منه اسم المفعول أي مخلوقين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏50‏]‏

‏{‏قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا ‏(‏50‏)‏‏}‏

‏{‏قُلْ‏}‏ جواباً لهم وتقريباً لما استبعدوه‏.‏

‏{‏كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً‏}‏ رد سبحانه قوله ‏{‏كُونُواْ‏}‏ على قولهم ‏{‏كنا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 49‏]‏ فهو من باب المشاكلة والمقابلة بالجنس، ومعنى الأمر كما قيل الاستهانة كما في قوله موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏أَلْقُواْ مَا أَنتُمْ مُّلْقُونَ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 80‏]‏ وجعله صاحب الإيضاح أمر إهانة والفاضل الطيبي أمر تسخير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُونُواْ قِرَدَةً خاسئين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 166‏]‏ لكنه قال‏:‏ إنه على الفرض‏.‏ وفي «الكشف» أنه غير ذاهر ولو جعل من باب كن فلاناً على معنى أنت فلان من استعمال الطلب في معنى الخبر أي أنتم حجارة ولستم عظاماً ومع ذلك تبعثون لا محالة لكان وجهاً قويماً، وبحث في الشهاب بأنه كيف يقال أنتم حجارة على أنه خبر وهو غير مطابق للواقع فلا بد من قصد الإهانة وعدم المبالاة وجعل الأمر مجازاً عن الخبر والخبر خبر فرضي وليس فيه ما يدل على الفرض كان ولو الشرطيتين فهو مما لا يخفى بعده وليس بأقرب مما استبعده فالصواب أنه للإهانة كما جنح إليه صاحب الإيضاح فتدبر، والحجارة جمع حجر كأحجار وهو معروف وكذا الحديد وهو مفرد وجمعه حدائد وحديدات‏.‏

والظاهر أن المراد كونوا من هذين الجنسين‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏51‏]‏

‏{‏أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا ‏(‏51‏)‏‏}‏

‏{‏أَوْ خَلْقًا‏}‏ أي مخلوقاً آخر ‏{‏مّمَّا يَكْبُرُ فِى صُدُورِكُمْ‏}‏ أي مما يستبعد عندكم قبوله الحياة لكونه أبعد شيء منها وتعيينه مفوض إليكم فإن الله تعالى لا يعجزه إحياؤكم لتساوي الأجسام في قبول الاعراض فكيف إذا كنتم عظاماً بالية وقد كانت موصوفة بالحياة قبل والشيء أقبل لما عهد مما لم يعهد، وقال مجاهد‏:‏ الذي يكبر السموات والأرض والجبال‏.‏

وأخرج ابن جرير وجماعة عن ابن عباس‏.‏ وابن عمر‏.‏ والحسن، وابن جبير أنهم قالوا‏:‏ ما يكبر في صدورهم الموت فإنه ليس شيء أكبر في نفس ابن آدم من الموت، والمعنى لو كنتم مجسمين من نفس الموت لأعادكم فضلاً عن أصل لايضاد الحياة إن لم يقتضها، وإن كان اللفظ غير ظاهر فيه ‏{‏فَسَيَقُولُونَ‏}‏ لك‏:‏ ‏{‏مَن يُعِيدُنَا‏}‏ مع ما بيننا وبين الإعادة من مثل هذه المباعدة والمباينة ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم تحقيقاً للحق وإزاحة للاستبعاد وإرشاداً إلى طريقة الاستدلال ‏{‏الذى فَطَرَكُمْ‏}‏ أي القادر العظيم الذي اخترعكم ‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ منغير مثال يحتذيه ولا أسلوب ينتحيه وكنتم تراباً ما شم رائحة الحياة أليس الذي يقدر على ذلك بقادر على أن يفيض الحياة على العظام البالية ويعيدها إلى حالها المعهودة بلى إنه سبحانه على كل شيء قدير، والموصول مبتدأ خبره يعيدكم المحذوف لدلالة السؤال عليه أو قاعل به أو خبر مبتدأ محذوف على اختلاف في الأول كما فصل في محله‏.‏ و‏{‏أَوَّلَ مَرَّةٍ‏}‏ ظرف فطركم ‏{‏فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءوسِهِمُ‏}‏ أي سيحر كونها نحوك استهزاء كما روى عن ابن عباس وأنشد عليه قول الشاعر‏:‏

أتنغض لي يوم الفخار وقد ترى *** خيولاً عليها كالأسود ضواريا

ومثله قول الآخر‏:‏

انغض نحوي رأسه وأقنعا *** كأنه يطلب شيئاً أطمعا

وفي «القاموس» نغض كنصر وضرب نغضاً ونغوضاً ونغضاناً ونغضا محركتين تحرك واضطرب كانغض وحرك كأنغض، وفسر الفراء الانغاض بتحريك الرأس بارتفاع وانخفاض، وقال أبو الهيثم، من أخبر بشيء فحرك رأسه انكاراً له فقد أنغض رأسه فكأنه سيحركون رؤسهم إنكاراً ‏{‏وَيَقُولُونَ‏}‏ استهزاء ‏{‏متى هُوَ‏}‏ أي ما ذكرته من الإعادة، وجوز أن يكون الضمير للعود أو البعث المفهوم من الكلام ‏{‏قُلْ‏}‏ لهم ‏{‏عسى أَن يَكُونَ‏}‏ ذلك ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ فإن ما هو محقق إتيانه قريب، ولم يعين زمانه لأنه من المغيبات التي لا يطلع عليها غيره تعالى ولا يطلع عليها سبحانه أحداً، وقيل‏:‏ قربه لأن ما بقي من زمان الدنيا أقل مما مضى منه؛ وانتصاب ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ على أنه خبر كان الناقصة واسمها ضمير يعود على ما أشير إليه، وجوز أن يكون منصوباً على الظرفية والأصل زماناً قريباً فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه فانتصب انتصابه وكان على هذا تامة وفاعلها ذلك الضمير أي عسى أن يقع ذلك في زمان قريب وأن يكون في تأويل مصدر منصوب وقع خبر لها أي عسى كونه قريباً أو في وقت قريب‏.‏

واعترض بأن عسى للمقاربة فكأنه قيل‏:‏ قرب أن يكون قريباً ولا فائدة فيه، وأجيب بأن نجم الأئمة لم يثبت معنى المقارنة في عسى لا وضعاً ولا استعمالاً، ويدل له ذكر ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ بعدها في الآية فلا حاجة إلى القول بأنها جردت عنه فالمعنى يرجى ويتوقع كونه قريباً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏52‏]‏

‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏يَوْمَ يَدْعُوكُمْ‏}‏ منصوب بفعل مضمر أي اذكروا أو بدل من ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ على أنه ظرف أو متعلق بيكون تامة بالاتفاق وناقصة عند من يجوز إعمال الناقصة في الظروف أو بتبعثون محذوفاً أو بضمير المصدر المستتر في ‏{‏يكون‏}‏ أو ‏{‏عسى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ العائد على العود مثلاً بناء على مذهب الكوفيين المجوزين اعمال ضمير المصدر كما في قوله‏:‏

وما الحرب إلا ما علمتم وذقتمو *** وما هو عنها بالحديث المرجم

وجعله بدلاً من الضمير المستتر بدل اشتمال ولم يرفع لأنه إذا أضيف إلى مثل هذه الجملة قد يبنى على الفتح تكلف وادعاء ظهوره مكابرة، والدعاء قيل‏:‏ مجاز عن البعث وكذا الاستجابة في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَسْتَجِيبُونَ‏}‏ مجاز عن الانبعاث أي يوم يبعثكم فتنبعثون فلا دعاء ولا استجابة وهو نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏كُنْ فَيَكُونُ‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 82‏]‏ في أنه لا خطاب ولا مخاطب في المشهور، وتجور بالدعاء والاستجابة عن ذلك للتنبيه على السرعة والسهولة لأن قول‏:‏ قم يا فلان أمر سريع لا بطء فيه ومجرد النداء ليس كمزاولة الإيجاد بالنسبة إلينا، وعلى أن المقصود الإحضار للحساب والجزاء فإن دعوة السيد لعبده إنما تكون لاستخدامه أو للتفحص عن أمره والأول منتف لأن الآخرة لا تكليف فيها فتعين الثاني، وقال الإمام وأبو حيان‏:‏ يدعوكم بالنداء الذي يسمعكم وهو النفخة الأخيرة كما قال سبحانه ‏{‏يَوْمٍ يُنَادِى المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ‏}‏ ‏[‏ق‏:‏ 41‏]‏ الآية، ويقال إن إسرافيل عليه السلام وفي رواية جبرائيل عليه السلام ينادي على صخرة بيت المقدس أيتها الأجسام البالية والعظام النخرة والأجزاء المتفرقة عودي كما كنت‏.‏

وأخرج أبو داود، وابن حبان عن أبي الدرداء أنه قال‏:‏ «قال صلى الله عليه وسلم إنكم تدعون يوم القيامة بأسمائكم وأسماء آبائكم فحسنوا أسماءكم» ولعل هذا عند الدعاء للحساب وهو بعد البعث من القبور، واقتصر كثير على التجوز السابق فقيل إن فيه إشارة إلى امتناع الحمل على الحقيقة لما يلزم من الحمل عليها خطاب الجماد وهو الأجزاء المتفرقة ولو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان ذلك كناية عن البعث والانبعاث لا مجازاً والمجوز لإرادتها يقول إن الدعوة بالأمر التكويني وهو مما يوجه إلى المعدوم وقد قال جمع به في قول كن ولم يتجوزوا في ذلك وأما أنه لو لم تمتنع إرادة الحقيقة لكان كناية لا مجازاً فأمر سهل كما لا يخفى فتدبر‏.‏

‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ حال من ضمير المخاطبين وهم الكفار كما هو الظاهر، والباء للملابسة أي فتستجيبون ملتبسين بحمده أي حامدين له تعالى على كمال قدرته، وقيل المراد معترفين بأن الحمد له على النعم لا تنكرون ذلك لأن المعارف هناك ضرورية‏.‏

وأخرج عبد بن حميد وغيره عن ابن جرير أنه قال‏:‏ يخرجون من قبورهم وهم يقولون‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك ولا بعد في صدور ذلك من الكافر يوم القيامة وإن لم ينفعه وحمل الزمخشري ذلك على المجاز والمراد المبالغة في انقيادهم للبعث كقولك لمن تأمره بركوب ما يشق عليه فيتأبى ويمتنع ستركبه وأنت حامد شاكر يعني أنك تحمل عليه وتقسر قسراً حتى إنك تلين لين المسمح الراغب فيه الحامد عليه فكأنه قيل‏:‏ منقادين لبعثه انقياد الحامدين له وتعلق الجار بيدعو كم ليس بشيء، وعن الطبري أن ‏{‏بِحَمْدِهِ‏}‏ معترضين بين المتعاطفين اعتراضه بين اسم إن وخبرها في قوله‏:‏

فإني بحمد الله لأثوب فاجر *** لبست ولا من غدرة أتقنع

ويكون الكلام على حد قولك لرجل وقد خصمته في مسألة أخطأت بحمد الله تعالى فكان الرسول عليه الصلاة والسلام قال‏:‏ عسى أن يكون البعث قريباً يوم تدعون فتقومون بخلاف ما تعتقدون اليوم وذلك بحمد الله سبحانه على صدق خبري، وملخصه يكون ذلك على خلاف اعتقادكم والحمد لله تعالى، ولا يخفى أنه معنى متكلف لا يكاد يفهم من الكلام ونحن في غنى عن ارتكابه والحمد لله، وقيل‏.‏ الخطاب للمؤمنين وانقطع خطاب الكافرين عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَرِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 51‏]‏ فيستجيبون حامدين له سبحانه على إحسانه إليهم وتوفيقه إياهم للإيمان بالبعث‏.‏ وأخرج الترمذي‏.‏ والطبراني‏.‏ وغيرهما عن ابن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم وكأني باهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وفي رواية عن أنس مرفوعاً‏:‏ «ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة عند الموت ولا في القبور ولا في الحشر وكأني بأهل لا إله إلا الله قد خرجوا من قبورهم ينفضون رؤسهم من التراب يقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن» وقيل‏:‏ الخطاب للفريقين وكلهم يقولون‏:‏ ما روى عن ابن جبير‏.‏

‏{‏وَتَظُنُّونَ‏}‏ الظاهر أنه عطف على ‏{‏تستجيبون‏}‏ وإليه ذهب الحوفي وغيره، وقال أبو البقاء‏:‏ هو بتقدير مبتدأ والجملة في موضع الحال أي وأنتم تظنون ‏{‏بَيْنَهُمْ إِن لَّبِثْتُمْ‏}‏ أي ما لبثتم في القبور ‏{‏إِلاَّ قَلِيلاً‏}‏ كالذي مر على قرية أو ما لبثتم في الدينا كما روى غير واحد عن قتادة، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يستقلون لبثهم بين النفختين فإنه يزال عنهم العذاب في ذلك البين ولذا يقولون ‏{‏مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 52‏]‏ وقيل يستقلون لبثهم في عرصة القيامة لما أن عاقبة أمرهم الدخول إلى النار، وهذا في غاية البعد كما لا يخفى، والظن يحتمل أن يكون على بابه ويحتمل أن يكون بمعنى اليقين وهو معلق عن العمل بأن النافية وقل من ذكرها من أدوات التعليق قاله أبو حيان وانتصاب ‏{‏قَلِيلاً‏}‏ على أنه نعت لزمان محذوف أي إلا زماناً قليلاً، وجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف أي لبثاً قليلاً ودلالة الفعل على مصدره دلالة قوية‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏53‏]‏

‏{‏وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ‏(‏53‏)‏‏}‏

‏{‏وَقُل لّعِبَادِى‏}‏ أي المؤمين فالإضافة لتشريف المضاف ‏{‏يَقُولُواْ‏}‏ عند محاورتهم مع المشركين ‏{‏التى‏}‏ أي الكلمة أو العبارة التي ‏{‏هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ولا يخاشنوهم كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 46‏]‏ ومقول فعل الأمر محذوف أي قل لهم قولوا التي هي أحسن يقولوا ذلك فجزم يقولوا لأنه جواب الأمر وإلى هذا ذهب الأخفش، ولكون المقول لهم هم المؤمنون المسارعون لامتثال أمر الله تعالى وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بمجرد ما يقال لهم لم يكن غبار في هذا الجزم‏.‏

وقال الزجاج‏:‏ إن يقولوا هو المقول وجزمه بلام الأمر محذوفة أي قل لهم ليقولوا التي الخ‏.‏ وقال المازني‏:‏ إنه المقول أيضاً إلا أنه مضارع مبني لحلوله محل المبني وهو فعل الأمر، والمعنى قل لعبادي قولوا التي هي أحسن وهو كما ترى، ومقول يقولوا ‏{‏التى‏}‏ وإذا أريد به الكلمة حملت على معناها الشامل للكلام‏.‏

‏{‏إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي يفسد ويهيج الشر بين المؤمنين والمشركين بالمخاشنة فلعل ذلك يؤدي إلى تأكد العناد وتمادي الفساد فالجملة تعليل للأمر السابق، وقرأ طلحة ‏{‏يَنزَغُ‏}‏ بكسر الزاي، قال أبو حاتم‏:‏ لعلها لغة والقراءة بالفتح، وقال «صاحب اللوامح» الفتح والكسر لغتان نحو يمنح ويمنح ‏{‏إِنَّ الشيطان كَانَ‏}‏ قدماً ‏{‏للإنسان عَدُوّا مُّبِينًا‏}‏ ظاهر العداوة فهو من أبان اللازم والجملة تعليل لما سبق من أن الشيطانت ينزغ بينهم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا ‏(‏54‏)‏‏}‏

‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ‏}‏ بالتوفيق للايمان ‏{‏أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ‏}‏ بالإماتة على الكفر، وهذا تفسير التي هي أحسن والجملتان اعتراض بينهما والخطاب فيه للمشركين فكأنه قيل‏:‏ قولوا لهم هذه الكلمة وما يشاكلها وعلقوا أمرهم على مشيئة الله تعالى ولا تصرحوا بأنهم من أهل النار فإنه مما يهيجهم على الشر مع أن الخاتمة مجهولة لا يعلمها غيره تعالى فلعله سبحانه يهديهم إلى الايمان، والظاهر أن أو للانفصال الحقيقي‏.‏

وقال الكرماني‏:‏ هي للاضراب ولذا كررت معها إن، وقال ابن الأنباري‏:‏ دخلت أو هنا لسعة الأمرين عند الله تعالى ويقال لها المبيحة كالتي في قولهم جالس الحسن أو ابن سيرين فإنهم يعنون قد وسعنا لك الأمر وهو كما ترى ‏{‏وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ أي موكولاً ومفوضاً إليك أمرهم تقسرهم على الإسلام وتجبرهم عليه وَإِنَّمَا أَرْسَلْنَاكَ بَشِيراً وَنَذِيراً فدارهم ومر أصحابك بمداراتهم وتحمل أذيتهم وترك المشاقة معهم، وهذا قبل نزول آية السيف‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏55‏]‏

‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏55‏)‏‏}‏

‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والارض‏}‏ وبأحوالهم الظاهرة والباطنة فيختار منهم لنبوته وولايته من يشاء ممن تراه حكمته أهلاً لذلك وهو رد عليه إذ قالوا‏:‏ بعيد أن يكون يتيم ابن أبي طالب نبياً وأن يكون العراة الجوع كصهيب‏.‏ وبلال‏.‏ وخباب وغيرهم أصحابه دون أن يكون ذلك من الأكابر والصناديد‏.‏

وذكر من في السموات لإبطال قولهم ‏{‏لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملئكة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 21‏]‏ وذكر من في الأرض لرد قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ فلا يدل تخصيصهما بالذكر وتعلقهما بأعلم على اختصاص أعلميته تعالى بما ذكر فما قاله أوب علي من أن الجار متعلق بعلم محذوفاً ولا يجوز تعلقه بأعلم لاقتضائه أنه سبحانه ليس بأعلم بغير ذلك ناشيء عن عدم العلم بما ذكرنا على أن أبا حيان أنكر تعدي علم بالباء وإنما يتعدى لواحد بنفسه في مثل هذا الموضع ‏{‏وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ‏}‏ بالفضائل النفسانية والمزايا القدسية وإنزال الكتب السماوية لا بكثرة الأموال والأتباع ‏{‏وَءاتَيْنَا دَاوُودُ زَبُوراً‏}‏ بيان لحيثية تفضيله عليه الصلاة والسلام وأنه بإيتائه الزبور لا بإيتائه الملك والسلطنة وفيه إيذان بتفضيل نبينا صلى الله عليه وسلم فإن كونه عليه الصلاة والسلام خاتم الأنبياء‏.‏ وأمته خير الأمم مما تضمنه الزبور وقد أخبر سبحانه عن ذلك بقوله عز قائلاً‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِى الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الارض يَرِثُهَا عِبَادِىَ الصالحون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 105‏]‏ يعني محمداً صلى الله عليه وسلم، وأمته ونص بعضهم أن هذا من باب التلميح نحو قصة المنصور وقد وعد الهذلي بعدة فنسيها فلما حجا وأتيا المدينة قال له يوماً وهو يسايره يا أمير المؤمنين هذا بيت عاتكة الذي يقول فيه الأحوص‏:‏

يا بيت عاتكة الذي أتغزل *** ففطن لمراده حيث قال ذلك ولم يسأله وعلم أنه يشير إلى قوله في هذه القصيدة‏:‏

وأراك تفعل ما تقول وبعضهم *** مذق اللسان يقول ما لا يفعل

فأنجز عدته، والزبور في الأصل وصف للمفعول كالحلوب أو مصدر كالقبول، نعم هذا الوزن في المصادر قليل والأكثر ضم الفاء وبه قرأ حمزة وجعله بعضهم على هذه القراءة جمع زبر بكسر الزاي بمعنى مزبور ثم جعل علماً للكتاب المخصوص وليس فيه من الأحكام شيء‏.‏ أخرج ابن أبي حاتم عن الربيع بن أنس قال‏:‏ الزبور ثناء على الله عز وجل ودعاء وتسبيح، وأخرج هو وابن جرير عن قتادة قال‏:‏ كنا نحدث أن الزبور دعاء علمه داود عليه السلام وتحميد وتمجيد لله عز وجل ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود‏.‏

والذي تدل عليه بعض الآثار اشتمال على بعض النواهي والأوامر، فقد روى ابن أبي شيبة أنه مكتوب فيه أنى أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك قلوب الملوك بيدي فأيما قوم كانوا على طاعة جعلت الملوك عليهم رحمة وأيما قوم كانوا على معصية جعلت الملوك عليهم نقمة فلا تشغلوا أنفسكم بسبب الملوك ولا تتوبوا إليهم وتوبوا إلى أعطف قلوبهم عليكم، والمزامير التي يفهم منها الأمر والنهي كثيرة فيه كما لا يخفى على من رآه، ومع هذا الفرق بينه وبين التوراة ظاهر، ودخول أل عليه في بعض الآيات للمح الأصل وذلك لا ينافي العلمية كما في العباس والفضل‏.‏

وجوز أن يكون نكرة غير علم ونكر ليفيد أنه بعض من الكتب الإلهية أو من مطلق الكتب ولا إشكال أيضاً في دخول أل عليه أي آتيناه زبوراً من الزبر وجوز أن يكون مختصاً بكتاب داود عليه السلام وليس بعلم بل من غلبة اسم الجنس وهو كالقرآن يطلق على المجموع وعلى الأجزاء، وتقدم إفادة التنكير للبعضية في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 1‏]‏ فيجوز أن يكون المراد هنا آتيناه بعضاً من الزبور فيه ذكره صلى الله عليه وسلم، هذا ووجه ربط الآيات بما تقدم على هذا التفسير على مافي «الكشف» أنه تعالى لما أرشد نبيه صلى الله عليه وسلم إلى جواب الكفار بجده في استهزائهم وتوقره في استخفافهم ليكون أغيظ لهم وأشجى لحلوقهم أرشده إلى أن يحمل أصحابه أيضاً على ذلك وأن يستنوا بسنته وعلل ذلك بما اعترض به من أن الشيطان ينزغه يحمل على المخاشنة فعلى العاقل الحازم أن لا يغتر بوساوسه كيف وقد تبين له أنه عدو مبين، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ متعلق بجميع السابق من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلْ كُونُواْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 50‏]‏ المشتمل على مجادلته بالتي هي أحسن ‏{‏وَقُل لّعِبَادِى‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ المشتمل على حملهم عليها إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏أَوْ أَن يَشَاء يُعَذّبُكُم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ وقوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِى السموات والارض‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 55‏]‏ من تتمة ‏{‏إن تتبعون إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُورًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 47‏]‏ فإنهم طعنوا فيه وحاشاه تارة بأنه شاعر ساحر مجنون وأخرى بنحو ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏ و‏{‏لو كان خيراً ما سبقونا إليه‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 11‏]‏ فأجيب عن الأول بما أجيب وعن الثاني بقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ‏}‏ ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ‏}‏ وجوز أن يكون الخطاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ الخ للمؤمنين وروى ذلك عن الكلبي وأخرج الأول ابن جرير‏.‏ وابن المنذر عن ابن جريج والمعنى أنه تعالى إن يشأ يرحمكم أيها المؤمنون في الدنيا بإنجائكم من الكفرة ونصركم عليهم أو إن يشأ يعذبكم بتسليطهم عليكم والمراد بالتي هي أحسن المجادلة الحسنة فكأنه تعالى لما ذكر الحجة اليقينية في صحة المعاد أمر نبيه عليه الصلاة والسلام أن يقول للمؤمنين إذا أردتم إيراد الحجة على المخالفين فاذكروا الدلائل بالطريق الأحسن وهو أن لا يكون ذلك ممزوجاً بالشتم والسب لأنه لو اختلط به لا يبعد أن يقابل بمثله فيزداد الغضب ويهيج الشر فلا يحصل المقصود وأشار سبحانه إلى ذلك بقوله عز قائلاً‏:‏

‏{‏إِنَّ الشيطان‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ الخ وضمير ‏{‏بينهم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ إما للكفار أو للفريقين وروى أن المشركين أفرطوا في إيذاء المؤمنين فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت وقيل شتم عمر رجل فهم رضي الله تعالى عنه به فأمره الله تعالى بالعفو‏.‏ قال في «الكشف» أنه على هذين القولين الكلمة التي هي أحسن نحو يهديكم الله تعالى وليست مفسرة بـ ‏{‏ربكم أعلم بكم‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان يَنزَغُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ تعليل للأمر بالاحتمال بأن المخاشنة من فعل الشيطان والخطاب في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ للمؤمنين وفيه حث على المداراة أي فداروهم لأن ربكم أعلم بكم وبما يصلح لكم من أوامر إن يشأ يرحمكم بالملاينة والتراحم لأنه سبب السلامة عن أذى الكفار أو أن يشأ يعذبكم بمخاشنتكم في غير إبانها وما أرسلناك عليهم وكيلاً فهؤلاء المؤمنون وهم أتباعك أولى وأولى بأن لا يكونوا وكيلاً عليهم ثم قال والأول أوفق لتأليف النظم وفي إفادة ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ الحث على ما قرر تكلف ما اه، وقيل‏:‏ المراد من عبادي الكفار وحيث كان المقصود من الآيات الدعوة لا يبعد أن يعبر عنهم بذلك ليصير سبباً لجذب قلوبهم وميل طباعهم إلى قبول الدين الحق فكأنه قيل قل يا محمد لعبادي الذين أقروا بكونهم عباداً لي يقولوا التي هي أحسن وهي الكلمة الحقة الدالة على التوحيد وإثبات القدرة على البعث وعرفهم أنه لا ينبغي لهم أن يصروا على المذهب الباطل تعصباً للأسلاف فإن ذلك من الشيطان وهو للإنسان عدو مبين فلا ينبغي أن يلتفت إلى قوله، والمراد من الأمر بالقول الأمر باعتقاد ذلك وذكر القول لما أنه دليل الاعتقاد ظاهراً ثم قال لهم سبحانه‏:‏ ‏{‏رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ‏}‏ بالهداية ‏{‏أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذّبْكُمْ‏}‏ بالإماتة على الكفر إلا أن تلك المشيئة غائبة عنكم فاجتهدوا أنتم في طلب الدين الحق ولا تصروا على الباطل لئلا تصيروا محرومين عن السعادات الأبدية والخيرات السرمدية، ثم قال سبحانه‏:‏ ‏{‏وَمَا أرسلناك عَلَيْهِمْ وَكِيلاً‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 54‏]‏ أي لا تشدد الأمر عليهم ولا تغلظ لهم بالقول، والمقصود من كل ذلك إظهار اللين والرفق لهم عند الدعوة لأنه أقرب لحصول المقصود، ثم إنه تعالى عمم علمه بقوله‏:‏ ‏{‏وَرَبُّكَ أَعْلَمُ‏}‏ الخ ويحسن على هذا ما روي عن ابن عباس وأخرجه ابن أبي حاتم عن ابن سيرين من تفسير ‏{‏التى هِىَ أَحْسَنُ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ بلا إله إلا الله ونقل ذلك ابن عطية عن فرقة من العلماء ثم قال‏:‏ ويلزم عليه أن يراد بعبادي جميع الخلق لأن جميعهم مدعو إلى قول لا إله إلا الله ويجىء قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 53‏]‏ غير مناسب إلا على معنى ينزغ خلالهم وأثناءهم ويفسر النزغ بالوسوسة والإملا ولا يخفى أنه في حيز المنع، وما ذكر من الدليل لا يتم إلا إذا لم يكن للتخصيص نكتة، وهي ههنا ظاهرة ويكون قوله تعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏56‏]‏

‏{‏قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا ‏(‏56‏)‏‏}‏

‏{‏قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُم مّن دُونِهِ‏}‏ الخ كالاستدلال على حقية ما دعاهم إليه من التوحيد وربطه بما تقدم على ما ذكرناه أولاً لا أظنه يخفي، والزعم بتثليث الزاي قريب من الظن ويقال إنه القول المشكوك فيه ويستعمل بمعنى الكذب حتى قال ابن عباس‏:‏ كلما ورد في القرآن زعم فهو كذب وقد يطلق على القول المحقق والصدق الذي لا شك فيه‏.‏

فقد أخرج مسلم من حديث أنس أن رجلاً من أهل البادية واسمه ضمَام بن ثعلبة جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد أتانا رسولك فزعم أنك تزعم أن الله تعالى أرسلك قال‏:‏ صدق الحديث فإن تصديق النبي عليه الصلاة والسلام إياه مع قوله زعم وتزعم دليل على ما قلنا‏.‏

وورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ زعم جبريل عليه السلام كذا، وقد أكثر سيبويه وهو إمام العربية في كتابه من قوله‏:‏ زعم الخليل زعم أبو الخطاب يريد بذلك القول المحقق وقد نقل ذلك جماعات من أهل اللغة وغيرهم ونقله أبو عمر الزاهد في «شرح الفصيح» عن شيخه أبي العباس ثعلب عن العلماء باللغة من الكوفيين والبصريين، وهو مما يتعدى إلى مفعولين وقد حذفا ههنا أو ما يسد مسدهما أي زعمتم أنهم آلهة أو زعمتموهم آلهة ويدل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏مِن دُونِهِ‏}‏ وحذف المفعولين معاً أو حذف ما يسد مسدهما جائز والخلاف في حذف أحدهما، والظاهر أن المراد من الموصول كل من عبد من دون الله سبحانه من العقلاء‏.‏

وأخرج عبد الرزاق‏.‏ وابن أبي شيبة‏.‏ والبخاري‏.‏ والنسائي‏.‏ والطبراني‏.‏ وجماعة عن ابن مسعود قال‏:‏ كان نفر من الإنس يعبدون نفراً من الجن فأسلم النفر من الجن وتمسك الإنسيون بعبادتهم فنزلت هذه الآية، وكان هؤلاء الإنس من العرب كما صرح به في رواية البيهقي وغيره عنه، وفي أخرى التصريح بأنهم من خزاعة، وفي رواية ابن جرير أنه قال‏:‏ كان قبائل من العرب يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن ويقولون هم بنات الله سبحانه فنزلت الآية‏.‏ وعن ابن عباس أنها نزلت في الذين أشركوا بالله تعالى فعبدوا عيسى وأمه وعزيراً والشمس والقمر والكواكب، وعلى هذا ففي الآية على ما في «البحر» تغليب العاقل على غيره، ومتى صح إدراج الشمس والقمر والكواكب على سبيل التغليب بناءً على أنها ليست من ذوي العلم فليدرج سائر ما عبد بالباطل من الأصنام ويرتكب التغليب‏.‏ وتعقب بأن ما سيأتي قريباً إن شاء الله تعالى من ابتغاء الوسيلة ورجاء الرحمة والخوف من العذاب يؤيد إرادة العقلاء كعيسى وعزير عليهما السلام بناءً على أن الأصنام لا يعقل منها ذلك، وارتكاب التغليب هناك أيضاً خلاف الظاهر جداً، والدعاء كالنداء لكن النداء قد يقال إذا قيل‏:‏ يا أو أيا أو نحوهما من غير أن يضم إليه الاسم والدعاء لا يكاد يقال إلا إذا كان معه الاسم نحو يا فلان وقد يستعمل كل منهما موضع الآخر، والمراد ادعوهم لكشف الضر الذي هو أولى من جلب النفع وأهم وتوجه القلب إلى من يكشفه أكمل وأتم‏.‏

‏{‏فَلاَ يَمْلِكُونَ‏}‏ فلا يستطيعون بأنفسهم ‏{‏كَشَفَ الضر عَنْكُمْ‏}‏ كالمرض والفقر والقحط وغيرها ‏{‏وَلاَ تَحْوِيلاً‏}‏ ولا نقله منكم إلى غيركم إلى غيركم ممن لم يعبدهم أو ولا تبديله بنوع آخر ومن لا يملك ذلك لا يستحق العبادة إذ شرط استحقاقها القدرة الكاملة التامة على دفع الضر وجلب النفع ولا تكون كذلك إذا كانت مفاضة من الغير، وكأن المراد من نفي ملكهم ذلك نفي قدرتهم التامة الكاملة عليه وكون قدرة الآلهة الباطلة مفاضة منه تعالى مسلم عند الكفرة لأنهم لا ينكرون أنها مخلوقة لله تعالى بجميع صفاتها وأن الله سبحانه أقوى وأكمل صفة منها، وبهذا يتم الدليل ويحصل الإفحام وإلا فنفى قدرة نحو الجن والملائكة الذين عبدوا من دون الله تعالى مطلقاً على كشف الضر مما لا يظهر دليله فإنه إن قيل‏:‏ هو أنا نرى الكفرة يتضرعون إليهم ولا تحصل لهم الإجابة عورض بأنا نرى أيضاً المسلمين يتضرعون إلى الله تعالى ولا تحصل لهم الإجابة، وقد يقال‏:‏ المراد نفي قدرتهم على ذلك أصلاً ويحتج له بدليل اوشعري على استناد جميع الممكنات إليه عز وجل ابتداإف‏.‏

وفسر بعضهم الضر هنا بالقحط بناءً على ما روي أن المشركين أصابهم قحط شديد أكلوا فيه الكلاب والجيف فاستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم فنزلت، وأنت تعلم أن هذا لا يوجب التخصيص‏.‏ واستدل بهذه الرواية على أن نفي الاستطاعة مطلقاً عن آلهتهم كان إذ ذاك مسلماً عندهم وإلا لما تركوها واستغاثوا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليدعو لهم وفيه نظر فانظر وتدبر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏57‏]‏

‏{‏أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا ‏(‏57‏)‏‏}‏

‏{‏أُولَئِكَ الذين يَدْعُونَ‏}‏ أي أولئك الآلهة الذين يدعونهم ويسمونهم آلهة أو يدعونهم وينادونهم لكشف الضر عنهم ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ يطلبون باجتهاد لأنفسهم ‏{‏إلى رَبّهِمُ‏}‏ ومالك أمرهم ‏{‏الوسيلة‏}‏ القربة بالطاعة والعبادة فضمير يدعون للمشركين وضمير ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ للمشار إليهم، وقال ابن فورك‏:‏ الضمير أن للمشار إليهم والمراد بهم الأنبياء الذين عبدوا من دون الله تعالى، ومفعول ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ محذوف أي يدعون الناس إلى الحق أو يدعون الله سبحانه ويتضرعون إليه جل وعلا، وعلى هذا لا يتعين كون المراد بهم الأنبياء عليهم السلام كما لا يخفى وهو كما ترى‏.‏

وقرأ ابن مسعود‏.‏ وقتادة ‏{‏تَدْعُونَ‏}‏ بالتاء ثالثة الحروف؛ وقرأ زيد بن علي رضي الله تعالى عنهما ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ بالياء آخر الحروف مبنياً للمفعول، وقرأ ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ‏{‏إلى رَبّكَ‏}‏ بكاف الخطاب، واسم الإشارة مبتدأ والموصول نعت أو بيان والخبر جملة ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ أو الموصول هو الخبر ويبتغون حال أو بدل من الصلة، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ فيه وجوه من الإعراب فالزمخشري ذكر وجهين، الأول كون أي موصولة بدلاً من ضمير ‏{‏يَبْتَغُونَ‏}‏ بدل بعض من كل؛ وهي إما معربة أو مبنية على اختلاف الرأيين أي أولئك المعبودون يطلب من هو أقرب منهم الوسيلة إلى الله تعالى بطاعته فكيف بالأبعد وليس فيه إلا حذف صدر الصلة والتقدير أيهم هو أقرب وهو مما لا بأس‏.‏ ولا ينافي ذلك جمع ‏{‏يَرْجُونَ‏}‏ و‏{‏يَخَافُونَ‏}‏ فيما بعد لعدم اختصاص ما ذكر بالأقرب أو لكون الأقرب متعدداً، والثاني كون أي استفهامية وهي مبتدأ و‏{‏أَقْرَبُ‏}‏ خبرها والجملة في محل نصب بيبتغون وضمن معنى يحرصون فكأنه قيل يحرصون أيهم يكون أقرب إلى الله تعالى وذلك بالطاعة وازدياد الخير والصلاح، قيل واعتبر التضمين ليصح التعليق فإنه مختص بأفعال القلوب خلافاً ليونس‏.‏

وقال الطيبي‏:‏ لا بد من تقدير حرف الجر لأن حرص تتعدى بعلى كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ‏}‏ ‏(‏النحل؛ 37‏)‏‏}‏ ولا بد من تأويل الإنشاء بأن يقال يحرصون على ما يقال فيه أيهم أقرب إلى الله تعالى بسببه من الطاعة، ويتعلق حينئذٍ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلى رَبّهِمُ‏}‏ بأقرب وهو كما ترى‏.‏

وقال صاحب الكشف في تحقيق هذا الوجه‏:‏ إن المطالب إذا كانت مشتركة اقتضت التسارع إليها في العادة وهو نفس الحرص أو ما لا ينفك عنه فناسب أن يضمن الابتغاء معنى الحرص لا سيما وبعده استفهام لا يحسن موقعه دون تضمينه لأن قولك أيهم أقرب إلى فلان بكذا سؤال عن مميز أحدهم عن الباقين بما يتقرب به زيادة فضيلة مع الاستواء في أصل التقرب فإذا ورد استئنافاً بعد فعل صالح لأن يكون معلوله وجب تقديره ذلك لأنك إذا قلت هؤلاء يحرصون على الهدى كان كلاماً جارياً على الظاهر وإذا قلت هؤلاء يحرصون أيهم يكون أهدى أفاد أن حرصهم ذلك على الهدى مع مغالبة بعضهم بعضاً فيه فيكون أتم في وصفهم بالحرص عليه‏.‏

ووجه الإفادة أنه تعقيبه على وجه التعليل وكأن كل واحد يسأل نفسه أهو أهدى أم غيره أي هو أشد حرصاً عليه أم غيره إذ لا معنى لهذا السؤال عن النفس إلا الحث وتعرف أن ثمت تقصيراً في ذلك أو لا، وعلى هذا لو قلت يحرصون على الهدى أيكم يكون أهدى عد مستهجناً لأن الاستئناف سد مسد صلته كما في أمرته فقام ‏{‏ولو شاء ربك لآمن‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 99‏]‏ وود لو أنه أحسن وكم وكم، فعلى هذا الطلب واقع على الوسيلة وهي الطاعة والحرص على الأقربية بها والازدياد منها ولا يمكن أن يستغني عن يحرصون بإجراء ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ مجرى التعليل ليبتغون على ما أشير إليه لأن ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ لا يصلح جواباً فارقاً بين الطالبين وغيرهم إنما هو فارق بين الطالبين أعني المتقربين بعضهم مع بعض وهو يناسب الحرص والشغف ولأن صلة الطلب أعني الوسيلة مذكورة وقد عرفت أن الاستئناف مغن عن ذلك والجمع مستهجن اه‏.‏

ولعمري لم يبق في القوس منزعاً في تحقيقه لكن الوجه مع هذا متكلف، وجوز الحوفي‏.‏ والزجاج أن يكون ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ مبتدأ وخبر والجملة في محل نصب بينظرون أي يفكرون، والمعنى ينظرون أيهم أقرب فيتوسلون به وكأن المراد يتوسلون بدعائه وإلا ففي التوسل بالذوات ما فيه‏.‏ وتعقب ذلك في «البحر» بأن في إضمار الفعل المعلق نظراً ومع ذا هو وجه غير ظاهر، وجوز أبو البقاء كون ‏{‏أَيُّهُمْ أَقْرَبُ‏}‏ جملة استفهامية في موضع نصب بيدعون وكون أي موصولة بدلاً من ضمير ‏{‏يَدَّعُونَ‏}‏ وتعقب الأول بأن فيه تعليق ما ليس بفعل قلبي والجمهور على منعه، وأما الثاني فقال أبو حيان‏:‏ فيه الفصل بين الصلة ومعمولها بالجملة الحالية لكنه لا يضر لأنها معمولة للصلة، وأنت إذا نظرت في المعنى على هذا لم ترض أن تحمل الآية عليه، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَرْجُونَ‏}‏ عطف على يبتغون أي يبتغون القربة بالعبادة ويتوقعون ‏{‏رَحْمَتِهِ‏}‏ تعالى ‏{‏ويخافون عَذَابَهُ‏}‏ كدأب سائر العباد فأين هم من ملك كشف الضر فضلاً عن كونهم آلهة ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبّكَ كَانَ مَحْذُورًا‏}‏ حقيقاً بأن يحذره ويحترز عنه كل أحد من الملائكة والرسل عليهم السلام وغيرهم، والجملة تعليل لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏ويخافون عَذَابَهُ‏}‏ وفي تخصيصه بالتعليل زيادة تحذير للكفرة من العذاب، وتقديم الرجاء على الخوف لما أن متعلقه أسبق من متعلقه ففي الحديث القدسي ‏"‏ سبقت رحمتي غضبي ‏"‏

وفي اتحاد أسلوبي الجملتين إيماءً إلى تساوي رجاء أولئك الطالبين للوسيلة إليه تعالى بالطاعة والعبادة وخوفهم، وقد ذكر العلماء أنه ينبغي للمؤمن ذلك ما لم يحضره الموت فإذا حضره الموت ينبغي أن يغلب رجاءه على خوفه، وفي الآية دليل على أن رجاء الرحمة وخوف العذاب مما لا يخل بكمال العابد، وشاع عن بعض العابدين أنه قال‏:‏ لست أعبد الله تعالى رجاء جنته ولا خوفاً من ناره والناس بين قادح لمن يقول ذلك ومادح، والحق التفصيل وهو أن من قاله إظهاراً للاستغناء عن فضل الله تعالى ورحمته فهو مخطىء كافر، ومن قاله لاعتقاد أن الله عز وجل أهل للعبادة لذاته حتى لو لم يكن هناك جنة ولا نار لكان أهلاً لأن يعبد فهو محقق عارف كما لا يخفى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏58‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا ‏(‏58‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن مّن قَرْيَةٍ‏}‏ الظاهر العموم لأن إن نافية ومن زائدة لاستغراق الجنس أي وما من قرية من القرى ‏{‏إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة‏}‏ بإماتة أهلها حتف أنوفهم ‏{‏أَوْ مُعَذّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا‏}‏ بالقتل وأنواع البلاء، وروي هذا عن مقاتل وهو ظاهر ما روي عن مجاهد وإليه ذهب الجبائي وجماعة، وروي عن الأول أنه قال‏:‏ الهلاك للصالحة والعذاب للطالحة، وقال أيضاً‏:‏ وجدت في كتاب الضحاك بن مزاحم في تفسيرها أما مكة فتخربها الحبشة وتهلك المدينة بالجوع والبصرة بالغرق والكوفة بالترك والجبال بالصواعق والرواجف، وأما خراسان فهلاكها ضروب ثم ذكر بلداً بلداً‏.‏ وروي عن وهب بن منبه أن الجزيرة آمنة من الخراب حتى تخرب أرمينية وأرمينية آمنة حتى تخرب مصر ومصر آمنة حتى تخرب الكوفة ولا تكون الملحمة الكبرى حتى تخرب الكوفة فإذا كانت الملحمة الكبرى فتحت قسطنطينية على يد رجل من بني هاشم وخراب الأندلس من قبل الزنج وخراب إفريقية من قبل الأندلس وخراب مصر من انقطاع النيل واختلاف الجيوش فيها وخراب العراق من الجوع وخراب الكوفة من قبل عدو يحصرهم ويمنعهم الشرب من الفرات وخراب البصرة من قبل العراق وخراب الأبلة من عدو يحصرهم براً وبحراً وخراب الري من الديلم وخراب خراسان من قبل النبت وخراب النبت من قبل الصين وخراب الهند واليمن من قبل الجراد والسلطان وخراب مكة من الحبشة وخراب المدينة من قبل الجوع، وعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ آخر قرية من قرى الإسلام خراباً المدينة ‏"‏ كذا نقله العلامة أبو السعود وما في كتاب الضحاك وكذا ما روي عن وهب لا يكاد يعول عليه، وما روي عن أبي هريرة مقبول وقد رواه عنه بهذا اللفظ النسائي ورواه أيضاً الترمذي بنحوه وقال حسن غريب ورواه أبو حيان بلفظ ‏"‏ آخر قرية في الإسلام خراباً بالمدينة ‏"‏ وفي «البحور الزاخرة» أن سبب خرابها أن بعض أهلها يخرجون مع المهدي إلى الجهاد ثم ترجف بمنافقيها وترميهم إلى الدجال ويهاجر بعض المخلصين إلى بيت المقدس عند إمامهم، ومن بقي منهم تقبض الريح الطيبة روحه فتبقى خاوية، ويأبى كونها سبب خرابها الجوع حسبما سمعت عن الضحاك وابن منبه ظاهر ما أخرجه الشيخان ‏"‏ لتتركن المدينة على خير ما كانت مذللة ثمارها لا يغشاها إلا العوافي الطير والسباع وآخر من يحشر راعيان من مزينة ‏"‏ الحديث‏.‏

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات ‏"‏ المدينة يتركها أهلها وهي مرطبة قالوا‏:‏ فمن يأكلها‏؟‏ قال‏:‏ السبع والعوافي ‏"‏ وما ذكر من أن مكة تخربها الحبشة ثابت في «الصحيحين» وغيرهما لكن بلفظ

«يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة» وفي حديث حذيفة مرفوعاً «كأني أنظر إلى حبشي أحمر الساقين أزرق العينين أفطس الأنف كبير البطن وقد صف قدميه على الكعبة هو وأصحاب له ينقضونها حجراً حجراً ويتداولونها بينهم حتى يطرحوها في البحر» وفي حديث أحمد عن أبي هريرة أنه تجىء الحبشة فيخربونه أي البيت خراباً لا يعمر بعده أبدا، نعم اختلف في أنه متى يكون ذلك‏؟‏ فقيل‏:‏ زمن عيسى عليه السلام، وقيل حين لا يبقى على الأرض من يقول الله وهو آخر الآيات، ومال إلى ذلك السفاريني، وظاهر ما تقدم في المدينة من الأخبار بأنها آخر قرى الإسلام خراباً يقتضي أن خراب مكة قبلها والله تعالى أعلم‏.‏

وما ذكر في خبر ابن منبه من أن مصر آمنة حتى تخرب الكوفة إن صح يقتضي أن الكوفة تعمر ثم تخرب وإلا فهي قد خربت منذ مئات من السنين وبقيت إلى الآن خراباً، ومصر آمنة عامرة على أحسن حال اليوم وبعمارتها حسبما يقتضيه الخبر جاءت آثار عديدة كما لا يخفى على من طالع الكتب المؤلفة في أمارات الساعة وأخبار المهدي والسفياني إلا أن في أكثرها لمنقر مقالاً‏.‏ وزعم البوني وأضرابه أنها تعمر في أواخر القرن الثالث عشر وقد أخذوا ذلك من كلام الشيخ محي الدين قدس سره، وأنت تعلم أنه أشبه شيء بالهندية ولا يكاد بعد من اللغة العربية، وما ذكر من أن خراب العراق من الجوع يعم بغداد فإنها قاعدته‏.‏

وقال القاضي عياض في الشفاء‏:‏ روي أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «تبنى مدينة بين دجلة ودجيل وقطربل والصراة تنتقل إليها الخزائن يخسف بها» يعني بغداد وهذا صريح في أن هلاكها بالخسف لا بالجوع لكن ذكر المحدثون أن في سند الخبر مجهولاً، ثم الظاهر على هذا التفسير أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَوْ مُعَذّبُوهَا‏}‏ الخ مقيد بمثل ما قيد به المعطوف عليه فيكون كل من الإهلاك والتعذيب قبل يوم القيامة أي في الزمان القريب منه وقد شاع استعمال ذلك بهذا المعنى وستسمعه قريباً إن شاء الله تعالى في الحديث وإنكاره مكابرة غير مسموعة وكأنه سبحانه بعد أن ذكر من شأن البعث والتوحيد ما ذكر ذكر بعض ما يكون قبل يوم البعث مما يدل على عظمته سبحانه وفيه تأييد لما ذكر قبله، وقد صح أنه بعد موت عيسى عليه السلام تجىء ريح باردة من قبل الشام فلا تبقى على وجه الأرض أحداً في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته فيبقى شرار الناس وعليهم تقوم الساعة، وجاء في غير ما خبر ما يصيب الناس قبل قيامها من العذاب، فمن ذلك ما أخرجه الطبراني‏.‏

وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان رضي الله تعالى عنه لتقصدنكم نار هي اليوم خامدة في واد يقال له برهوت يغشى الناس فيها عذاب أليم تأكل الأنفس والأموال تدور الدنيا كلها في ثمانية أيام تطير طيران الريح والسحاب حرها بالليل أشد من حرها بالنهار ولها بين السماء والأرض دوي كدوي الرعد القاصف قيل‏:‏ يا رسول الله أسليمة يومئذٍ على المؤمنين والمؤمنات‏؟‏ قال‏:‏ وأين المؤمنون والمؤمنات الناس يومئذٍ شر من الحمر يتسافدون كما يتسافد البهائم وليس فيهم رجل يقول مه مه إلى غير ذلك من الأخبار، ولا يبعد بعد أن اعتبر العموم في القرية حمل الإهلاك والتعذيب على ما تضمنته تلك الأخبار من إماتة المؤمنين بالريح وتعذيب الباقين من شرار الناس بالنار المذكورة، وصح أنها تسوقهم إلى المحشر وورد أنهم يتقون بوجوههم كل حدب وشوك وأنه تلقى الآفة على الظهر حتى لا تبقى ذات ظهر حتى أن الرجل ليعطي الحديقة المعجبة بالشارف ذات القتب ليفر عليها، وكون ذلك قبل يوم القيامة هو المعول عليه وقد اعتمده الحافظ ابن حجر وصوبه القاضي عياض وذهب إليه القرطبي والخطابي وجاء مصرحاً به في بعض الأحاديث، فقد أخرج الإمام أحمد والترمذي وقال‏:‏ حسن صحيح عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما مرفوعاً ستخرج نار من حضرموت أو من بحر حضرموت قبل يوم القيامة تحشر الناس الحديث ولا يبعد أن يعذبوا بغير ذلك أيضاً بل في الآثار ما يقتضيه ‏{‏كَانَ ذَلِكَ‏}‏ أي ما ذكر من الإهلاك والتعذيب ‏{‏فِى الكتاب‏}‏ أي في اللوح المحفوظ كما روي عن إبراهيم التيمي وغيره ‏{‏مَسْطُورًا‏}‏ مكتوباً، وذكر غير واحد أنه ما من شيء إبين فيه بكيفياته وأسبابه الموجبة له ووقته المضروب له‏.‏ واستشكل العموم بأنه يقتضي عدم تناهي الإبعاد وقد قامت البراهين النقلية والعقلية على خلاف ذلك فلا بد أن يقال بالتخصيص بأن يحمل الشيء على ما يتعلق بهذه النشأة أو نحو ذلك، وقال بعضهم بالعموم إلا أنه التزم كون البيان على نحو يجتمع مع التناهي فاللوح المحفوظ في بيانه جميع الأشياء الدنيوية والأخروية وما كان وما يكون نظير الجفر الجامع في بيانه لما يبينه، وقد رأيت أنا صحيفة للشيخ الأكبر قدس سره ادعى أنه يعلم منها ما يقع في أرض المحشر يوم القيامة وأخرى الجنة، وقبول هذه الدعاوى وردها مفوض إليك، وفسر بعضهم الكتاب بالقضاء السابق ففي الكلام تجوز لا يخفى‏.‏

هذا وذهب أبو مسلم إلى أن المراد ما من قرية من قرى الكفار واختاره المولى أبو السعود وجعل الآية بياناً لتحتم حلول عذابه تعالى بمن لا يحذره إثر بيان أنه حقيق بالحذر وأن أساطين الخلق من الملائكة والنبيين عليهم السلام على حذر من ذلك، وذكر أن المعنى ما من قرية من قرى الكفار إلا نحن مخربوها البتة بالخسف بها أو بإهلاك أهلها بالمرة لما ارتكبوا من عظائم الموبقات المستوجبة لذلك أو معذبو أهلها عذاباً شديداً لا يكتنه كنهه والمراد به ما يعم البلايا الدنيوية من القتل والسبي ونحوهما والعقوبات الأخروية مما لا يعلمه إلا الله تعالى حسبما يفصح عنه إطلاق التعذيب عما قيد به الإهلاك من قبلية يوم القيامة ولا يخص بالبلايا الدنيوية كيف وكثير من القرى العاتية العاصية قد أخرت عقوبتها إلى يوم القيامة، ثم أنه يحتمل أن يقال في وجه الربط على تقدير التشخيص‏:‏ أنه سبحانه بعد أن أشار إلى أن الكفرة المخاطبين في بلاء وضر وأن آلهتهم لا يملكون كشف ذلك عنهم ولا تحويله أشار إلى أن مثل ذلك لا بد وأن يصيب الكفرة ولا يملك أحد كشفه ولا تحويله عنهم، وهذا ظاهر بناءً على ما تقدم عن البعض في سبب النزول الذي بسببه فسر الضر بالقحط فتأمل‏.‏

وفي اختيار صيغة الفاعل في الموضعين وإن كانت بمعنى المستقبل من الدلالة على التحقق والتقرر ما فيه، والتقييد بيوم القيامة لأن الإهلاك يومئذٍ غير مختص بالقرى الكافرة ولا هو بطريق العقوبة وإنما هو لانقضاء عمر الدنيا، ثم قال‏:‏ إن تعميم القرية لا يساعده السياق ولا السباق اه وفيه تأمل‏.‏ ومن الناس من رجحه على ما سبق بأن فيه حمل الإهلاك على ما يتبادر منه وهو ما يكون عن عقوبة ولا كذلك فيما سبق‏.‏

وأجيب بأن ذلك سهل فقد استعمل في مقام التخويف فيما لم يكن عن عقوبة كقوله تعالى‏:‏